الأخبارمقالات

في الذكرى الخمسين لتأسيس جبهة البوليساريو..قراءة في فكر و تجربة الشهيد المؤسس الولي مصطفى السيد (بقلم: محمد المتوكل)


مخطئ من يعتقد أن الثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب اندلعت من دون نظرية ثورية، لقد كان مفجر الثورة القائد الشهيد الولي مصطفى السيد حريصا أن تكون الأداة النظرية مفعمة بطابع التميز، فهو المقتنع تمام الاقتناع بأن لا وجود لمفهوم نظري إلا في تميزه، أي في تطبيقه على زمن تاريخي معين. فمن غرب الوطن العربي من أرض الساقية الحمراء ووادي الذهب، يطرح القائد الشهيد الولي مصطفى السيد قضية تحرر الشعب العربي الصحراوي في سياق الزمن التاريخي المسيطر في المجتمع الصحراوي. كان يرى بعين الفكر العلمي وضعا لم تكتمل شروط نضجه لكن وطنيته دفعته إلى اختيار الأدوات النظرية والعملية التي تسعف الوطن على تحرره والمواطن على الذهاب إلى التحرر. فانطلقت الثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب اعتمادا على أشياء غير موجودة في ذلك التاريخ لكنها حتميا ستقع يخبرنا الشهيد عن ظروف الانطلاقة.
1– الزمن التاريخي أو سمات الواقع:
اختار الشهيد الثورة نهجا فكان ينتظره عملا جبارا لا تضاهيه إلا المعجزات التي تحكي عنها ثقافات الشعوب، ولم يمهله الزمن فكان يلتمس الوضوح يبحث عن درب يأخذ بيده، وبيد غيره إلى ارض الحقيقة، في قلبه لهب أو شيء كاللهب تخبر عنه حركات يديه، عارفا وباطمئنان كبير أن من يبحث عن الحقيقة يموت في عرض الطريق. لم يكن همه أن يترك نظريات تدرس بعده أو كتبا يستوضح منها الدارسون نهج الثورة في الجزء الغربي من الوطن العربي، بل كان همه استيفاء شروط كان واثقا من حتمية قيامها.
لتلك الغاية إخثار الأداة الموائمة لإنتاج معرفة وطنية تخبر عن أسباب تخلف الوطن وتعرف بوسائل تقدمه. ففي تحليله لواقع الشعب الصحراوي يبرز الشهيد الولي درجة التخلف التقني والتنظيمي التي يعانيها الشعب الصحراوي وانعكاسها السلبي على الذات كما على العلاقة بالآخرين الذين يعيشون واقعا مغايرا. فالتخلف التقني يحرم الصحراويين من استعمال الأداة التقنية في التجارة كما في الحرب وفي الفهم للالتحاق بركب العلوم. ويواصل تشريحه للواقع بأداة علمية لا تخطئ العلل ولا تعدم وسيلة تخطيها بأسلوب باتر قطعي يقرر الحد بين النور والظلام، فيتوقف في واحدة من أهم خطبه، سماها “أفكار للنقاش” أمام الأطر أبريل 1976، على إشكالية الفهم لدى شعب غالبيته العظمى تشكو الأمية لا تقرأ ولا تكتب فتعدوا عملية الفهم مسألة نسبية. فيصف هذا المفكر العبقري من يفهم بأذنه لا يدوم فهمه طويلا فيتغير جذريا بمجرد ما تفرغ الأذن فالمقصود هنا التعطيل القائم لدور مركز الجهاز العصبي في عملية الفهم، فالأذن المملوءة بالثورة والأماني الثورية ما تلبث أن تمتلئ بأشياء تسير في اتجاه مغاير. فليس أمام الإطار إلا اللسان والتكرار لان وسيلة كالكتابة مثلا والنطق المتقطع تفقد فعاليتها لدى الإنسان الأمي وأمام شعب بدوي جبل على النزعة الاستقلالية والرفض والأنفة فكل الأمور يجب أن تتم بالإقناع.

لكن الإقناع تعترضه صعوبة أخرى، والفهم الذي يسهل الإقناع يعوز الإنسان البدوي أحيانا كما يغيب الانضباط للتنظيم الذي يجعل من الالتزام شرطا مقدما على الاقتناع. هكذا فالتخلف التنظيمي ونمط التفكير البدوي يجعلان من الإقناع الوسيلة الوحيدة المتوفرة. ويسترسل مدققا وبكثير من التفصيل في كينونة التنظيم القبلي الذي يسود ويعقد سيرورة عمليتي الفهم والإقناع لدى أفراد الشعب المتشبعين منذ صغرهم بروابط تقرب بين أفراد القبيلة وتبعد بينهم و أفراد قبيلة أخرى، وإذا كانت العاطفة والمصلحة محددين أساسيين للتشبث بالانتماء إلى القبيلة فإن “العدمية السياسية” كما يسميها الشهيد في إشارة لغياب الحزب أو التنظيم السياسي تأسس لفراغ تملؤه القبيلة، ولا يتردد الشهيد في توصيف التنظيم القبلي كشكل بدائي يتماثل بالنزعة الغريزية وباقي الحيوانات في التجمع والدفاع عن الصنف. وما يدفع القبيلة للإغارة على قبيلة أخرى لا يحدده القصاص من فعل جرمي ضد أحد أبنائها بل تحدده الغنيمة، فالقبيلة يؤكد الشهيد أنها تستعيض عن فرد هالك منها بمكسب مادي غنيمة حرب كان أو دية دون حرب، وهكذا يرفع الشهيد المفكر من درجة تعارضها والتنظيم السياسي ليضعها موضع النقيض للتنظيم، فهو بذلك يحكم قاطعا على إستحالة تعايشها والتنظيم السياسي وحالة حدوث العكس أي القبيلة داخل الدولة أو التنظيم تستفحل كل مظاهر الفساد من زبونية ومحسوبية وسرقة وإجهاز على حقوق الغير فتنبعث الانتهازية في لباس الدفاع عن القبيلة والركوب عليها وبإسمها لكسب المزيد، وفي غياب العدل في توزيع الثروة والمنافع تكون القبيلة قد إستحالت لغما يهدد كل القيم التي انتزعها الشعب باسمه وليس باسم القبيلة التي لا يتردد الشهيد في نعتها بأقدح النعوت فهي “الخويمة” (تصغير للخيمة) المبنية على السوء والتخلف والجهل ولا تحتوي غير السرقة والحرام، وبوضوح وشفافية يشدد الشهيد المفكر أن سر الوجود وسر المكاسب وأسباب الكرامة والاحترام حقيقة واحدة إسمها الشعب.
2- الثورة الصحراوية ومحيطها العربي:
يستنطق الشهيد المفكر جملة البني الفوقية التي تحكم شعبا ينزع إلى التحرر ويشخص أمراضا تتعارض كما يرى ومشروع الدولة الحرة فالقبيلة حين تحكم الدولة تهوي الدولة ويهوي الكيان السياسي نحو الركوع والخنوع لان الحركة الثورية مثلما يؤمن لا تتوقف عند تحقيق أهداف مرحلية مثل الاستقلال الشكلي كما حدث في العديد من بلدان العالم العربي بل تتعداه إلى أهداف إستراتيجية يضع الشهيد المفكر في مقدمتها التحالف مع القوى الثورية للتصدي للهجمة الامبريالية، فنستوحي من مضامين فكر الشهيد أو على الأصح من مقولات الشهيد ارتباط الثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب بحركة التحرر العربي بل إيمانه بوحدة المصير، فلا يستقيم تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب إلا بتحرير القوى الوطنية في كل البؤرة الثورية غرب الوطن العربي في الجزائر كما في المغرب في موريتانيا كما في تونس وليبيا من السيطرة الرجعية أي تحريرها من بنية سياسية متخلفة ومستبدة وتابعة وإدراجها في بنية أخرى هي بنية الكفاح التحرري الثوري. ابتعد الشهيد القائد قليلا عن الغوص في التأصيل النظري للحركة الثورية في الجزء الغربي من الوطن العربي مستلهما الدروس والعبر من حجم الاختلاف السائد في المشرق العربي بين جهابذة الفكر الفلسفي والسياسي وقيادات بارزة في الأحزاب الشيوعية العربية وحركات التحرر العربي المختلفين حول طبيعة الصراع وتصنيف نمط الإنتاج السائد في المجتمعات العربية وطبيعة التحالفات التي تخدم حركة التحرر الوطني وحول انسجام هذه الأخيرة وأهداف الحركة الثورية. فالشهيد يعي جيدا أن ذاك الاختلاف هو إفراز لعوامل وأنساق اجتماعية واقتصادية تختلف من بلد عربي إلى أخر، فالمجتمعات التي تطورت فيها الصناعات وظهرت طبقات تنسجم مصالحها ومصالح الاستعمار الذي خرج لتوه أو يستعد للمغادرة لم يكن نمط إنتاجها رأسماليا صافيا بل تابعا للكومبرادور وهو بذلك إنتاج كولونيالي كما اصطلح على تسميته ويعني جل الأقطار العربية، فلما كان الواقع العربي سمته الخضوع للسيطرة الامبريالية أين النظرية من شرح أسباب هذا الخضوع واقتراح سبل التحرر منه عمليا؟
فلإن أصابت كل النظريات القومية والشيوعية، فإن من اهتدى منها من بعثيين وناصريين على الخصوص إلى الوصول لمقاليد السلطة وقيادة الجماهير لم تسعفهم النظريات تلك في بلورة تناقضات الحركة. فالعجز عن التقاط “تميز التناقضات” كما جاء على لسان احد منظري الحزب الشيوعي اللبناني، الشهيد مهدي عامل، هو الذي أغوى العقول البائرة بالخلط بين “القومية السياسية ” الممكنة الوجود و”القومية النظرية” التي لا وجود لها إلا في عقول لا تعرف معنى النظرية أصلا. لعل هذا الخلط يضيف، مهدي عامل، هو تعبير عن وعي بائس، بين قومية ممكنة وأخرى متوهمة، هو الذي سيجعل لاحقا المصفقين للقوميتين يتخلون عنهما سريعا بين الانهيار الممكن والمتوهم معا.
لقد عانق الشهيد الولي مصطفى السيد حلم الوحدة العربية وكان قوميا مخلصا لفكرة الوحدة ومتحمسا لضرورة تحقيقها لكن التميز في فكره الوحدوي أسسه على وحدة الأجزاء أي الكيانات السياسية وكان بذلك يؤمن بدور تلك الكيانات السياسية ومهماتها في الحركة الثورية وبدون إنجاز تلك المهمات نغوص جميعا في بحر النظريات دون تحقيق المنشود، وثورة الشعب العربي في الساقية الحمراء ووادي الذهب انطلقت استجابة لتطلعات الشعوب العربية عكس ما تدعيه الرجعية العربية وما تكرسه دعاية النظام المخزني في المغرب.
3- التحليل الملموس للواقع الملموس:
لم تكن الصحراء الغربية بلد المعامل والعمال ولم تكن لعموم الشعب الصحراوي علاقة بدورة الإنتاج في قطاعات الدولة الاستعمارية المسيطرة بل شعب صغير كما صنفه الشهيد يعيش على تربية المواشي قبل أن تقصف البادية في عملية اكوفيون في سنة 1958 أو تتأثر بالجفاف، فحرص المستعمر على أن لا يعطي إمكانية لبروز طبقة الكادحين التي ستثور ضده فيقول الشهيد بهذا الصدد أن المستعمر كان يقطر قطرة قطرة قدر ما يبقينا على قيد الحياة ويحرص على عدم تركنا نسحب الأيدي الممدودة إلى قطراته، كما حرص على ألا يقطر ما يملئ الأيدي لتبرز البرجوازية الوطنية فالشعب، يضيف الشهيد الولي، كان يعيش بقوت يومه وبمجرد ما يزول الاستعمار يزول قوت اليوم.
لا شيء كان ينبئ بانفراج بعد اجتياح الاستعمار الجديد للتراب الصحراوي ولا مناص من مواجهة المعتدين وكان الشهيد مملوكا بثقة لا تضاهى في مقدرة الشعب على الصمود، واقع يحكي عنه الشهيد بالقول إن الواقع الآن واقع شعب طرد من أرضه لا يملك شيئا على الإطلاق تفتك به الأمراض يوميا فلا خيار يبقى إلا المنفى والجوع والضياع أو الكفاح بإرادة متينة. فالنظام المغربي بطبيعته الرجعية ينتمي إلى جبهة تقودها الامبريالية وتوجهها في الصراع ضد الجبهة التقدمية وباجتياحه للصحراء الغربية يكون في وضعية المنفذ لمخططات الامبريالية حافزه في ذلك ما تمليه المعطيات على الأرض لشعب صحراوي قليل العدد يعيش على ارض غنية مقابل تشكل شروط أزمة خانقة لم تزدها الانقلابات المتتالية والانتفاضات الشعبية إلا تعقيدا، فالمغرب وهو يشرع في قتل وتشريد الصحراويين وقنبلة مخيماتهم واحتلال أرضهم وتقسيمها ونظام ولد داداه، كان يمارس حربا بالوكالة عن الامبريالية التي كانت تواجه مصاعب في آسيا وفي إفريقيا وأي نصر تحرزه في البؤرة الجديدة يكون داعما لنفوذها ونقطة تحدي للأنظمة التقدمية الأخرى وهذا ما كان يراه الشهيد القائد سببا يجعل أمريكا تحول الصحراء من يد اسبانيا إلى المغرب وموريتانيا.
بالمقابل يبرز الشهيد الولي عمق التناقض القائم بين النظام المغربي والمعسكر الاشتراكي، تناقض مبدئي ومصيري كما يسميه لكنه يبرز أيضا أن عدم وضوح الرؤيا في المعسكر الاشتراكي ليس مرده موقف المعارضة المغربية إلى جانب النظام بل نوع من تصفية الحساب مع أطراف من داخل المعسكر الاشتراكي ينظر لها أنها تنزع إلى الاستقلالية، وانطلاقا من رؤيته المتبصرة لعمق الصراع يشدد الشهيد المفكر على البعد الاستراتيجي للثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب واصطفافها الحتمي إلى جانب القوى التقدمية لكنه كان يدرك أن الوصول إلى دعم تلك القوى وضمان وقوفها إلى جانبنا يمر بالضرورة عير تحقيق أهداف مرحلية تبدأ بإحراز انتصارات ميدانية وتصفية الرجعية في أقطار المغرب العربي كسبيل للوصول إلى كتلة ملتحمة تضمن الاستمرار عبر نزعتها الهجومية ولا تستكين إلى الدفاع.
4- الواقع البديل والشرط الذاتي:
كانت رؤية الشهيد لطبيعة الصراع بالعمق نفسه الذي نظرت له ثورات القرن العشرين فلم يكن يحاكي التحليل السائد حتى لا يرتهن إلى متاهات المعالجة النظرية، فمعركته كانت منذ البداية على الأرض ولأنها كانت قائمة فكل ما كان يفكر فيه الشهيد المقاتل هو توفير الملجأ الآمن لآلاف اللاجئين والوصول إلى قلوب الحلفاء وتسديد الضربات الموجهة للعدو ولأجل ذلك فان بناء القوة الذاتية يظل حاسما في إقناع الجبهة التي ننتمي إليها ويظل كذلك لأننا سنحقق انتصارات ميدانية تتحدث بالنيابة عنا.
يخبرنا الشهيد عن الواقع الذي نطمح إليه ويذكرنا بأنه بديل حقيقي للواقع المرفوض ونقيض حقيقي للواقع الذي نعيشه والذي يتطلب منا تغييره كل التضحيات القائمة والقادمة، لكنه يتوقف عند جملة شرطية تسلم بحقيقة ان لا حديث عن واقع بديل وواقع نقيض لما هو سائد إلا إذا تم حسم نظام الحكم المأمول لفائدة الشعب فيجب، يشدد الشهيد، أن يكون نظاما شعبيا ديمقراطيا نابعا من القاعدة الشعبية ومن اختيارها وفي خدمتها.
في فكر الشهيد لا يوجد انتصار للشعب الصحراوي دون حجم من التأثير يغطي كل الجبهة التقدمية التي تحقق انجازا يخيب آمال الامبريالية، وهو بذلك إنما يجدد التأكيد على أن تحقيق آمال الشعب الصحراوي في الواقع البديل يمر بالضرورة عبر إلحاق الهزيمة بالامبريالية وفي هذا تأكيد على انتماء الثورة في الجزء الغربي من الوطن العربي للثورة العالمية المناهضة للظلم والاستغلال واستعباد الشعوب واستنزاف خيراتها، يضع الشهيد المفكر وبما يكفي من الدقة والوضوح سكة قطار الثورة الصحراوية على الخط التقدمي الاشتراكي.
إن العودة إلى القول أن الشهيد المفكر الولي استعاض عن الغوص في تعقيدات التأصيل النظري للثورة في الساقية الحمراء ووادي الذهب بمفاهيم تبسيطية، ليس من باب التكرار ولا من باب الجحود لفكر ثاقب يعرف من أين ينطلق وماذا يريد؟ فنظرية الثورة كما أسسها مفجر الثورة تتفرد بالتميز الذي يعكسه واقع الشعب الصحراوي حيث البداوة والتخلف والأمية وقلة الأطر وتكالب الامبريالية، فهل كان ضروريا أن ترتهن الثورة لقيام شروط اجتماعية واقتصادية تحدد شكل الصراع الطبقي وتفرز القوى الوطنية القادرة على خوض معركة التحرير فيكون طليعة ثورية بقيادة العمال أو حركة تحرير تقودها البرجوازية الوطنية؟ والإجابة في فكر الشهيد ترفع كل لبس فلا نجد في فكره ما يعيد إنتاج فكر من سبقوه لأنه ابعد ما يكون من أولئك الدوغمائيين الذين يرتاحون إلى الصمت ويؤثرون درب السلامة والحياة السالمة دون أن تكون سليمة وعكسهم كان الشهيد يتحدث إلى الشعب والى الأطر عن دقة تفاصيل المرحلة وعن المشروع الوطني وعن بعده الثوري الإنساني في العراء وتحت القصف.
لقد وضع الثورة كنظرية موضع التجريب على ارض صحراوية قاحلة ليس بها أحراش وغابات الفيتنام ولا سييرا مايسترا كوبا، لم يكن الشهيد دوغمائيا بل إيمانيا يؤمن بحقيقة الشعب. لقد وضع الشهيد نصب عينيه الوصول إلى حقيقة الشعب، أن يوجد الشعب لأنه “حتميا موجود شعب” واسطر تحت كلمة “حتميا” استعملها المفكر الشهيد ليس أطنابا أو هرطقة بل الماما بحاجة الشعب إلى انتصارات تقويه وتهيؤه لتحقيق المزيد من الانتصارات، وليس غريبا أو بالصدفة كان الشهيد القائد يكتشف الاختلالات. فآثر أن يربطها وبوضوحه المعهود بالأطر، فعلاقة الأطر بالشعب هي المحدد لتوزيع أعباء الثورة، فتحيا القاعدة الشعبية بالنقاش الذي يصلها والأفكار التي تبلورها وفي حالة العكس يسود الركود والميوعة والاتكال ما سيفرز الإطار الانتهازي الذي يركب على الجماهير ويستغل مكاسبها ويختبئ ورائها.
فالإطار إما انتهازي وصولي تجره الجماهير خلفها أو طلائعي يعطي ولا يأخذ، فمسؤولية الإطارات كبيرة وأساسية، كما أن معرفتهم وحيويتهم ونشاطهم وقدرتهم على التجديد مسألة مهمة والعمل المطلوب يجب تقييمه من واقع تحليل عام يشمل وضعنا ووضع العدو والعالم الذي نعيش فيه، هكذا يرى الشهيد أن الوعي والمعرفة والخبرة محددات أساسية تزيدها قدرة المنظم على الإبداع والتجديد أهمية وفعالية، وفي ارتباط الإطار بالجماهير هو مطالب بتنظيم وعيها وترتيب أولويات القاعدة الشعبية من حيث الحاجة إلى الخوض في أمور والوعي بها أكثر من غيرها.
إن الوعي والمعرفة والخبرة والإبداع والتجديد مضامين لمواصفات الإطار المثقف في فكر الشهيد، فالشهيد وهو يرفع من وثيرة وحدة نقده تجاه المثقف / الإطار كان بحق يستشعر حجم مسؤولية هذه الفئة ويخصها بنداء التحرر الذي يعيد بناء الموروث في وحدة ثقافية متحولة يخترقها التحرر وتدعو إليه في آن، هكذا يصرخ الشهيد في الجميع بتصوره الكفاحي الوطني للثقافة فيكون منسجما في ذلك مع الخطاب العربي التحرري ومتحدثا بذات اللغة التي أعطت للثقافة الوطنية معنى أعمق وبعدا اشمل فتعرفها : ” الثقافة الوطنية ليست معطى جاهزا، فوجودها، بالمعنى التاريخي، هو وجود الاستعمار الذي أملاها وردت عليه، في حركة متجددة هي حركات الغزو الاستعماري ومواجهتها له. وهذا ما يحدد الثقافة الوطنية فعلا مقاوما وما يعين المقاومة الوطنية فعلا ثقافيا، على مبعدة شاسعة عن الأرواح المغتبطة المهاجرة التي تختزل الثقافة إلى سطور المبدعين الملتحفين بالعزلة والتعالي. إن الحديث عن الثقافة الوطنية هو حديث عن الشخصية الوطنية تلك التي تتشكل في الرد الموائم والمتجدد على الغزو الاستعماري.”
شذرات كانت تلك من فكر الشهيد الولي، فكر عبقري لا زال التاريخ لم يوفه حقه، شهيد حرب التحرير الشعبية ودعنا مبكرا في أوج عطائه وأزهى مراحل عنفوانه، ليعبد الطريق أمام أجيال هي اليوم في مسيرها نحو الحقيقة التي آمن بها الشهيد وناضل من اجلها فسقط في الطريق إليها. شهيد الكلمة الحرة التي تنبع من معدن الصفاء والثبات والحزم، شهيد تشبع بعقيدة واحدة هي الإيمان بحتمية وجود شعب اسمه الشعب الصحراوي وكرس ما عاش من عمره ليبني بأفكاره وسلوكه وأخلاقه وحصيلة أعماله مجدا للشعب والوطن…
غبت عنا أيها المفكر العظيم والثائر الوفي وما غابت روحك، ترعانا لتشد وزر المتعب منا وترشد التائه وتنبه المتخاذل وتلعن المتساقط الخائن. روحك تذكرنا بنداء التحرير وتخبرنا أننا منتصرون، فهنيئا لك أيها الرفيق العظيم فنم قرير العين بين الشهداء، شعبك يمضي إلى حيث شئت ولن يحيا دون الكرامة والحرية التي أردت.