الأخبار

الاستعمارُ القديم يزكّي الاستعمارَ الجديد28 يوليو، 2024(بقلم: سيف الدين قداش)

مرة أخرى، وبدعم واضح من لوبيات المصالح والصهيونية، أو بهدف ابتزاز خيارات الجزائر، تحاول فرنسا الالتفاف على الشرعية الدولية والأممية القطعية مثل غيرها من الدول المخترَقة مخزنيًّا أو المتورطة أو المتواطئة معه في ملفات وقضايا بتّت فيها العدالة الدولية وصدّقتها الحقائق الدامغة. غير أن العالم المتناقض والمتقلب قلب ظهر المجن للحقيقة الواضحة وأصبح يُقلب مواقفه ليس بمنطق الاستحقاق والشرعية، بل وفق الطلب والتطبيع والمصالح الظرفية والابتزاز والمراوغة الإمبريالية.

ليست فرنسا التي طردها الأحرار من الجزائر وإفريقيا والعالم بلغة السلاح رغم كل الادّعاءات والتلاعبات، من تقرر مصير أحرار الصحراء الغربية، مثلها مثل دول من المعسكر الإمبريالي صاحبة التاريخ الاستعماري الأسود بالإجرام والهمجية والتي تدّعي اليوم دعم حلِّ الدولتين في فلسطين بينما تُمكّن للصهاينة الإرهابيين مساحات الدعم السياسي والعسكري لقتل أبرياء غزة والضفة ولبنان واليمن وغيرهم بكل همجية ووحشية وتحت تصفيقات نخبة مشرّعي الشعب الأمريكي في الكونغرس وعلى الصوت النشاز لمجرم الإبادة الجماعية بنيامين نتنياهو، الذي أكد بشكل قاطع ساطع أن نفاق العالم الغربي والعربي من محور التطبيع الخفي والمعلن أصبح يزكم الأنوف ويصم الأذان لنشازه ووقاحته.

مما لا شك فيه أن ما جاء بالتطبيع والمصالح لا يمكن أن يمحي التاريخ أو الجغرافيا، ولا منطق الطبيعة، ولا يمكن أن يحذف التاريخ النضالي الأصيل لشعب الصحراء الغربية ولا طبيعتها المؤكِّدة بأنها يوماً لم تكن مخزنية الولاء أو الولاية. ولكن كما تفعل دائما أنظمة البيع والشراء، فهي تقايض استعمارا باستعمار ومبادئ وحقوق خالدة في فلسطين المقدسة بمبادئ وحقوق خالدة في أرض الصحراء الغربية الطاهرة.

وللتاريخ الذي يعيد أحداثه مع الصليبيين المتصهينين الجدد بعد اندحار أجدادهم الغابرين على يد صلاح الدين الأيوبي، فإن وجود الصهاينة اليوم ظاهرين على أغلب أرض فلسطين لا يعني البتة أنهم سادة الأرض المقدسة أو ملّاكها إلى الأبد. والناظر في التاريخ، الذي قال فيه ابن خلدون “إن التاريخ ظاهره خبر وباطنه نظر”، يدرك لا محالة أن تحالف الفرعونية والقارونية ليس مقياسًا حاسمًا لحسم الجدلية التاريخية، ذلك أن الدفع والتدافع كفيلٌ قطعا بنمو حضارات ودول وسقوطها “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، فقد انتهى ادعاء فرعون بالربوبية العلوية بالغرق، وانتهت الأنانية القارونية ونكران الفضل الإلهي فيما بين يدي قارون بالخسف. ولأن روما القديمة ملكت الشرق والغرب، فقد تفتّتت وتفكّكت إلى دول وأقسام ثم سقطت سياسيًّا وحضاريًّا وأضحت أثرًا بعد عين، فأين هم الملوك والأباطرة الذين حاربوا أبطال شمال إفريقيا العظماء والأحرار: حنبعل وسيفاكس ويوغرطة؟ ألم يغادر الرومان (وإن طال الزمن) شمال إفريقيا خاسرين خاسئين؟ بل أين فرنسا الاستعمارية بكل ممارساتها الهمجية أمام فيالق الحرية وشهداء العزة والكرامة ومجاهدي الحرية والاستقلال؟

ليست مواقف أنظمة الدول هي من تحسم خيارات الشعوب التواقة للحرية والكرامة، وأين حق تقرير المصير وقواعد الديمقراطية من كل هذا؟ ولو كانت كذلك لحسمت فرنسا ودول الغرب مع الحلف الأطلسي قضية ثورة الشعب الجزائري المجيد، لقد دوّخت ثورتنا الشرق والغرب وكان وقودها الحق المقدَّس والإيمان الثابت والجهاد العظيم القاسي، فبعد استعمار استيطاني همجي عادت الجزائر إلى محمد، وبُني في المحمدية مسجد الجزائر الأعظم بعد أن كانت مستعمَرة لافيجري.

وإلى اليوم لا تزال فرنسا تشاكس بيمينها الإمبريالي قداسة الحرية والكرامة المستردَّة بالنفس والنفيس، ولكنّ هيهات فقد غادر الجزائر ليس فقط الجيش الإرهابي الفرنسي المجرم آنذاك، بل غلاة ومتطرفو المستوطنين (الذين يحنّون اليوم للفردوس الجزائري) بجنسياتهم الهجينة ومصالحهم الضيقة، ولأن العبرة باقية فستتحرر الصحراء الغربية وفلسطين وسيغادرها المستوطنون الذين جُلبوا من مراكش (يهود الكيان المراكشيين قبل أن يصبحوا مغاربة!) ووجدة (مستوطني المسيرة الخضراء المزيفة والملفقة)، ومن بولندا ، ومن ألمانيا والرباط، ومن الولايات المتحدة الأمريكية والصويرة، ومما لا شك فيه أن الحق والتاريخ والثبات على المبادئ رغم كل التزييف والتزوير سيُسقط الافتراءات والأكاذيب ويعيد الحق الخالد أمام الباطل البائد، فلطالما كانت دورات التاريخ وصراع الحق الضعيف المؤمن والباطل الجاهلي المستقوي الهمجي، هي من هدمت أصنام مكة ووثنية الرومان وبزغ عالميا قمر الإسلام منيرًا وأريوسية المسيح التوحيدية على شمال إفريقيا ومن قصر الإمبراطور قسطنطين بعد اضطهاد أجداده الأباطرة لفِتية الكهف، أليس التاريخ أفضل مُعلّم ومَعلم، أليس ظاهره خبرا وباطنه نظرا وحكمة!

إن فرنسا المأزومة في الداخل والمهتزة والمهترئة سياسيا جراء الانفصام والانقسام الداخلي، تحاول بعد أن طُردت من الساحل تجنيد ذيول لها، وتمكين أدوات طيِّعة لحساباتها الضيقة، ولكن فاتها قطعا أن التحولات الحاصلة في إفريقيا قاطبة لا في الساحل وحده خارج بوصلتها، وأن قلب المعادلة الحقيقي جيو إستراتيجيا رغم كلّ التلاعبات والمؤمرات هو الجزائر، التي كانت ولا تزال وستبقى مكة الثوار ورأس الدول المناهضة للاستعمار والإمبريالية، فالرهان الفرنسي المدفوع بديماغوجية التذبذب والتشتُّت والانقلاب عن الأدبيات القديمة لخارجيّة فرنسا الرصينة إلى حد ما، خاسر من البداية وحتى النهاية، وإذا كان المخزن سيطرح الأراضي الصحراوية بثمن مجاني كرشوة موقف أو بمقابل بخس لسرقتها من الشركات الفرنسية، وهو الملف الأول الذي انطلقت به أسطوانة انقلاب الموقف للنظام الفرنسي المتهاوي على ضربات اليسار واليمين، فممّا لاشك فيه أن ذلك سيكون سرقة إستعمارية فاضحة ما لم يصادق الصحراويون بشكل حاسم على المقترح المخزني المرفوض قطعا، فأين هي الشرعية؟ وأين هي المبادئ القانونية التي تجعل فرض الأمر الواقع حقا مخزنيا بتوابل فرنسية؟

وحتى لا نستغرب أن التاريخ يعيد نفسه، فقد دعمت فرنسا المخزن بالسلاح في سبعينيات القرن المنصرم، ليستقوي على الجزائر، وها هي اليوم تحاول تقويته بـ”شرعية” موقف مجموعات النظام الفرنسي الشاذ عن القانون الدولي والشرعية الأممية، فألا تتوقّف فرنسا عن الشذوذ في كل شيء، أم ليس بينهم رجل رشيد؟!
بقلم: سيف الدين قداش