الشهيدان الولي مصطفى السيد ومحمد عبد العزيزوسامان من صحائف الفخر والاعتزاز (بقلم: عالي احبابي)
عندما يعيش الإنسان لذاته تبدو حياته قصيرة فتنتهي بانتهاء عمره المحدود ، أما عندما يعيش لغيره فإن حياته تكون طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقته لوجه الأرض
وعندما يرحل العظماء تنقص الأرض من أطرافها، وتنطفئ منارتهم الكبرى التي كانت ترسل إشعاعاتها ونورها لتظل متقدة على امتداد خارطة عطائهم , عندما يرحل العظماء تنفطر لذهابهم القلوب، باعتبارهم حماة مجد شعوبهم , وركنها الركين، وصمام أمن قيمها ومبادئها التي ترتفع بها إلى مصاف الأمم الخالدة ذات الإسهامات الكبرى في حياة البشرية
هي مشيئة الله وقدره أن ترحل قوافل من الشهداء زارعة في قلوبنا حسرة ولوعة , لكنها لم ترحل الا بعد أن أثث لخلودها عبر مساحات شاسعة من قلوب الصحراويين , والقائمة طويلة ، لا يتسع المقام لذكرها …
لكننا ونحن نكرم ثلة من هؤلاء الشهداء ، نقف اليوم بمشاعر عميقة تشتعل فيها حسرة الفراق بألم الخسارة , وتتقد فيها شمائل الفخر والاعتزاز , بمآثر رجال بحجم أمة.. رجال قادوا مسيرة شعبهم وانتشلوه من بين أنقاض التكالبات الاستعمارية في الحقب المظلمة ، وفي زمن التبعية والهوان والردة عن المبادئ الناصعة والمعاني الجميلة , فعرفوا كيف يقودون المراحل بتموجاتها ومنعرجاتها , بحربها وسلمها , وبين الاثنين تكمن حكمة وفاء الرجال ….
محمد عبد العزيز ، والشهيد الولي مثال من هؤلاء العظماء الذين أنجبهم الشعب الصحراوي , ووهبهم القدر شمائل الصدق ورباطة الجأش , وحباهم بقدرات وطاقات متميزة ارتقت بهم إلى قمة المجد وذرى العمل والتضحية , رجلان ليسا ككل الرجال، ورمزان ليسا ككل الرموز، فما تركاه بين دفتي كتاب حياتهما الذي تتقاطر من صفحاته المضيئة كل صور العطاء والإبداع، يضعهما -حتما ودون جدال- في المرتبة الأسمى التي لا يجاورهما فيها إلا نفر قليل من العظماء ، بالغي التفرد والتميز والإبداع، في العصر الحديث …..
نعم هم الشهداء ، وربما لا نعرف الكثير عن تفاصيل سيرتهم , لكننا مؤمنون بأنهم شكلوا نموذجا للإصرار والمواجهة والتحدي في كل الميادين وفي كل الأوقات، وخلال تجربتنا القصيرة , أدركنا بعضا من العناوين العريضة التي بزغت في مرحلة ما من مراحل حياة الرجلين محل التركيز، التي تختزل في صحائف أعمالهما مدونات كتبت بمداد الذهب والمجد والفخار، على إيقاع مراحل وعهود زمنية عصفت بها التحديات وسرت فيها المؤامرات ودسائس العدو , سيما وشعبنا يعيش بين اللجوء وقبضة الاحتلال , مما أهل الشهيدين وغيرهما من شهداء القضية الوطنية بأن يصيرا مدرسة فكرية كبرى متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة عسكرية شاملة طبعت بصماتها المؤثرة في جبهات القتال , وفي السياسة الداخلية , فضلا عن الدبلوماسية التي أطراها بحكمة وتمعن واستقراء لمعطيات التطورات ….
أعتقد أن المكانة التي احتلها الشهيدان محل التركيز، محمد عبد العزيز ,والولي مصطفى ، لم تكن من خلال مواقعهما الهامة التي تقلداها كأمينين عامين للجبهة ورئيسين للدولة , أو زعامتهما التاريخية لقيادة أخر حركة تحرر في افريقيا , بل إن الشهيدين اكتسبا أهميته ومكانته أكثر ما يكونان كقائدين ومفكرين قومين على مستوى العالم العربي والإسلامي الذين لم ينصفهما وستبقى تلك وصمة عار تطارد فقهاء الامة العربية والاسلامية ، فلم يتأخرا عن واجب عزاء أو مواساة , ولم يبخلا في تهنئة أو مباركة , وهما الافريقيان بامتياز حيث تقمصا النهج الافريقي عبر التصدي للطغيان الدولي، وهما اللذان أظهر ا رؤى وحلولا ومشاريع حضارية تتجاوز عناصرها ومكوناتها وتأثيراتها الجمهورية الصحراوية إلى آفاق العالمين الافريقي الرحب والساحة الدولية الأكثر اتساعا من خلال اشاعة السلام وحقن الدماء , والبحث عن فرص التنمية البشرية انشادا لرقي الشعوب وازدهارها ماديا وفكريا , ثقافيا واجتماعيا …
تجربة الرجلين ليست كأي تجربة, إنها تجربة فريدة واجهت مصاعب وعقبات لا حصر لها، وأعادت رسم وتشكيل الخريطة الاجتماعية إثر عقود عجاف من التفرقة والقبلية ومحاولات وأد الوحدة الوطنية ، فحاربا الجهل والامية ، ورافعا عن التكاثر كسياسة , فلا تكاد تخلو كلمة من كلماتهما الداخلية من الحث عليه وتذليل عقبات الزواج , فضلا عن محاربة البذخ في المناسبات الدينية والاجتماعية , بل كانا يستغلان جميع المناسبات والاستحقاقات لاستعراض مساوئ القبلية , وكيف تساهم في ضرب الوحدة الوطنية , وكم حرضا على أن يكون الاعتماد على الذات منهجا اقتصاديا , وكم من مرة ركزا على القيم السامية لشعبنا مبرزين تميزها وضرورة الحفاظ عليها وتربية النشء على الفضيلة وحسن الخلق , وكم من مرة أشهرا سلاحهما في وجه محاولات النيل من طهارة كفاحنا ، وبذلك يكون الشهيدان قد جسدا كل أشكال القوة والعزم والصبر والثبات والصمود والحكمة في متوالية رائعة من الإصرار العجيب الذي تفاعل بين ضلوع شخصية فريدة لا تأبه بالباطل ، ولا ترتعد من سطوة قرارات ترى فيها من الحكمة ما هو كاف للحفاظ على الخط العام …..
ورغم ذلك لم تقتصر حياتهما على المواقف الصلبة والقدرات الفكرية والسياسية الباهرة، بل إن رجلي الحرب والفكر والسياسة امتلكا مرونة اجتماعية وسياسية ودبلوماسية مدهشة صقلتها المحن والخطوب والتجارب والخبرات، ليشكلا شخصية بديعة ذات ملامح ومكونات متكاملة توجت بكاريزما ذاتية وحضور لافت لا يختلف في جدارته وأهليته أي كان , ولعل شواهد العالم بدءا من الامم المتحدة مرورا بصناع القرار في مختلف عواصم العالم , وفقهاء السياسة والثقافة والمنظمات الدولية والهيئات العالمية كلها خلصت الى أن الشهيدين الولي ومحمد عبد العزيز من طينة الكبار, ومن الصعب اختزال كتاب حياتهما في قراءة متواضعة ….
فحين نتحدث عن علاقة الشهيدين بالقضية الوطنية نتحدث عن علاقة عضوية عقدية مصيرية لا انفصام لها، وحالة من حالات التجذر العميق في الوعي الفكري والثقافي والسياسي الذي يتأسس على رؤية شاملة ذات آفاق رحبة تدرك أبعاد الصراع وحقيقة الاحتلال المغربي , فلم يشركا معها جاها ولا مالا , نتذكرهما مقاتلين في الصفوف الامامية , وفي ادارة المعركة , قائدين وجنديين راميين ومذخرين , سائقين وممرضين , محاضرين ومعلمين , نتذكرهما في الحملات الانتاجية رغم الانشغالات الواسعة , نتذكرهما في زياراتهما المتواصلة للمدارس العسكرية والمدنية والمستشفيات وكيف يواسيان المرضى ويعزيان المصابين , نتذكر الشهيدين وهما يشقان عباب البحر وشهاق الجو مبشرين بعدالة القضية الوطنية, نتذكرهما مثالا للأطر, بل كانا مؤمنين بأن الاطار الملتزم مدعو الى أن يعطي بلا حدود من لحمه ودمه ووقته وراحته، وألا يخفض سقف تضحياته وعطاءاته مهما كانت الظروف ,نتذكر كيف واجها الظروف والضغوط بصبر لئلا يتسلل القنوط أو اليأس الى نفوس شعبهما , وكيف كانا يتألمان ليلا افراغا لمتاعب النهار ورضوخا لشدة الصعاب , نتذكر الرجلين الاستثناء , ونشهد لهما ولغيرهما من شهداء القضية الوطنية بأنهما لا يعرفان للحرباء إلا لونا واحدا , وهو بياض العهد …..
إن الحديث عن القائدين الولي ومحمد عبد العزيز عبارة عن كتابة قصة من قصص الأدب العجائبي ، لكن كتابتها تحتاج إلى أن تكون الأقلام والأوراق والأذهان بمعزل عن هول الصدمة والمفاجأة برحيلهما قبل أن يحققا حلم شعبهما , وليس لنا إلا أن نقتبس من رثاء طه حسين لعباس محمود العقاد قوله : ” أمثالك تموت أجسامهم لان الموت حق على الأحياء جميعاً، ولكن ذكرهم لا يموت لأنهم فرضوا أنفسهم على الزمان وعلى الناس فرضاً..
عاشت القضية الوطنية في روح القائدين العسكريين وفي عقلهما ووجدانهما، وكانا لها سندا وداعما وظهيرا ونصيرا أينما حلا أو ارتحلا، حتى غدت صنو القضايا العالمية ، ولحنا شديا تعزف حروفه وتطرب لأنغامه كافة قطاعات وشرائح الشعوب والمنظمات والهيئات العالمية عرفانا بعدالتها
اليوم يتذكر الشعب الصحراوي الرجلين ،في الواحد والثلاثين من ماي وفي التاسع من يونيو ، ملكنها حاضران في تفاصيل حياتنا بمواقف زرعت بذرة النهوض الواعد بمؤسسات الدولة الصحراوية عبر المشروع الوطني الذي وصفاه بأنه يتسع لجميع الصحراويين , ويؤازر الشعوب المضطهدة في مشوارها نحو نيل حقوقها المسلوبة وكرامتها المفقودة , ومع ذلك فنحن مرتاحون كون العديد من القادة والاجيال تخرجت من مدرسة النضال وعهد الثورة الطويل الامد , وهم رافعوا راية العزة والكرامة والحرية عاليا , مرتاحون كون هؤلاء الرجال , وان رحل الشهيد الولي أو محمد عبد العزيز أو غيرهما من رجال القضية الوطنية ، وغابوا عن مشهد الحياة , وان انطوت صفحة أجسادهم ، لكن فكرهم المبثوث في النفوس سيظل متأججا يافعا يحمل الراية ويقود المسيرة , بل لا بد من استثمار ومعاينة الثمار اليانعة التي نضجت في بستانهم العامر، ونهلت من معين تجربتهم الممتدة على مدار عقود من العطاء والتضحية , ورحيق خبرتهم الواسعة …..
القائدان الشهيدان الولي ومحمد عبد العزيز جسدا حقيقة نجوميتهما وانتمائهما لشعبهما ولقضايا قارتهما ليس عبر اسميهما المجردين، بل عبر مسيرة حياتهما العامرة وتاريخهما الحافل الذي لم يعرف يوما معنى التردد والتراجع أو الانكسار , وفي ذلك عبر ودروس ستظل ناطقة , ومتلألئة لا غبار عليها , انه الرحيل السليم في العقل السليم وفي النهج السليم , وفي الطريق السليم
فالعزة والمجد والخلود للشهداء , والخزي والعار والمذلة للخونة وللجبناء.